سورة الإسراء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)}.
التفسير:
سبحان: مصدر، منصوب، بفعل محذوف تقديره سبّح اللّه تسبيحا، أو سبّحه سبحانا.
أسرى: أسرى بكذا، أي سار به ليلا.. وأصل الفعل من السرّ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور.. ولأن الليل يستر الناس، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس، فقد سمّى السير فيه سرى.. وسمّى تحرك الليل نفسه، سرى، وذلك لأنه يقطع رحلته في دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له، ويرصد مسيرته.. فأول الليل وآخره سواء، في مرأى العين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ}.
فالليل نفسه يسرى، أي يسير متخفّيا في ظلام، مستترا به، لا ننكشف حركته للناس..!
وعلى هذا، فكل حركة، أو عمل، يكون في خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ سرى، فيقال: أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا، دون أن يطلع عليه أحد.
وقيد السّرى باللّيل هنا، يراد به تحقيق أمرين:
أولهما: اتخاذ الليل ستارا للسير، وظرفا حاويا له، حتى لا تنفذ إليه الأبصار.
وثانيا: التحرك في حذر، وحيطة، وفى خفاء، دون جلبة أو ضوضاء.
الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح.. فإن الليل وإن كان سترا يحجب الأبصار، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات، والإمساك بها.. ولعلّ هذا هو ما نلمحه في قوله تعالى للوط عليه السلام: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [81: هود] وقوله تعالى لموسى عليه السلام: {فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [23: الدخان].. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس، في إخفاء كل حركة، وكل صوت، ينبىء عن هذا السير، أو السّرى..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري في سلاسة، ورفق- سمّى {سريّا} كما يقول سبحانه وتعالى لمريم: {فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [24: مريم].
وقد توسعنا في شرح كلمة {أسرى} وفى قيدها بظرف الليل، لندرك السرّ في قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وأن قيد السّرى هنا بالليل، وجعله وعاء حاويا له، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل، كما يقول بذلك المفسّرون، فهذا الظرف- في رأيهم على هذا القول- ليس له أثر في معنى لفظ الإسراء.
إذ الإسراء أو السّرى- عندهم- لا يكون إلا ليلا.. فكلمة {ليلا} عندهم لمجرد التوكيد، بالتكرار!! وقد رأيت أن معنى الإسراء، أو السّرى، هو الخفاء، وأنه مشتق من السّرّ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر في ستر من الخفاء، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل.
فقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} يشير إلى أمرين:
أولهما: أن ظرف الإسراء كان ليلا، وثانيهما: أنه كان بحيث لم يشعر به أحد، بل وقع في ستر، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ، القريبين منه، الذين كانوا يشاركونه الحياة في بيته، وفى الحجرة التي كان ينام فيها.
ونستظهر من هذا أمرين أيضا:
أولهما: أن الإسراء بالرسول، صلوات اللّه وسلامه عليه، كان بجسده، ولم يكن بروحه الشريف وحده.. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ {أسرى} الذي يدلّ في ذاته على الستر والخفاء، ولما جعل هذا السّتر في مضمون ستر آخر هو الليل، كما يقول سبحانه: {ليلا}.
وثانيهما: أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم، لم يكن معجزة متحدّية، وإنما هو رحلة روحيّة، واستضافة من اللّه الرحمن الرحيم، للنبىّ، في رحاب ملكوته، حيث يشهد من ملكوت اللّه، ويتزود من ألطاف اللّه، ما لم يشهده بشر، وما لم يتزود به إنسان! هذا، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل، امتلأت به كتب التفسير، والسّير، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال، وكثير من الكذب والدسّ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه، وتغيب عن نظر الناظر فيه، مواقع العبرة والعظة منه.
ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول الإسراء، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص اللّه سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين، وإمام المرسلين.
وقفة مع الإسراء والمعراج:
قد رأينا في مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
فهذه الآية، هى كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء.
وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة الإسراء، باعتبار أن الإسراء هو أبرز حدث فيها، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة.
وإذن، فالحديث الحقّ عن الإسراء، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية، وألا يجاوز حدودها.
والإسراء- كما يفهم من هذه الآية- هو رحلة سماوية، أرادها اللّه سبحانه لنبيّه الكريم، ليريه سبحانه وتعالى من آياته، ما لا تراه العيون، ولا تتظنّاه الظنون! وحدود هذه الرحلة- كما يذكر القرآن- هى: من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.
وزمانها، لحظة من لحظات الليل.. كما يقول سبحانه: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..}.
فالآية صريحة في الإسراء وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم، وأنه واقعة حقيقية، وليس رؤيا مناميّة، وإلّا لما كان له ذكر خاص في سورة خاصة.
والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث الإسراء، ليس من معطيات الآية الكريمة، من جهة، ولا تستدعيه غاية الإسراء، ولا يحتاج إليها الكمال الذي يجب أن يكون عليه- من جهة أخرى.
فالإسراء، على ما تشهد به الآية- لم يكن- كما أشرنا من قبل- معجزة متحدية، وإنما هو- كما قلنا- رحلة روحية إلى بيت المقدس، مجمع الأنبياء، وأول قبلة للإسلام!!
دواعى هذه الرحلة:
كان الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- قبيل الإسراء، في وجه خصومة عنيفة ظالمة، من قومه.. يدعوهم إلى الرشاد والخير، فيلقونه بالتكذيب والبهت، وبرمونه بالسّوء والأذى.. وهو رحيم بهم، حريص على هدايتهم، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم، إذ يراهم يتمزقون شعبا، ويتقطعون أوصالا، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها.
وليس حال أدعى من هذه الحال، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق، إلى جوّ آخر، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس! ولكن: إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء، موجه برسالتها؟
إنه لا مفرّ للنبىّ- إن أراد أن يظل في سجل الأنبياء- من أن يثبت في موقفه، لا يزايله، ولا يتحول عنه أبدا، وإن هلك! وقد قالها رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- لعمّه أبى طالب، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه، ويلقى قومه بالموادعة، حتى لا تتمزّق وحدة قريش، ويقتل بعضها بعضا، فقال قولته الخالدة: «واللّه يا عمّ لو وضعوا الشّمس في يمينى ولقمر في بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته، أو أهلك دونه»!
ولكن.. ها هى ذى الأحداث تزداد شدة، والشر يشتد اشتعالا، فتأتمر قريش فيما بينها على أن تكون جبهة واحدة في وجه النبي، ومن يقف إلى جواره من قومه.
وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم، وبنى عبد المطلب- رهط النبي الأدنين- أبت عليهم العصبية العربية، أن يتخلوا عن النبي، وأن يسلموه لقريش، تنال منه، وتستبد به! وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم، وبنى عبد المطلب، فلا يزوّجوهم، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم.
بل إنها القطيعة التامة في كل شيء بتواصل الناس به.
وقد واجه بنو هاشم، وبنو عبد المطلب، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية، بشجاعة وصبر، وإباء، وأبوا أن يعطوا الدنيّة في هذا الامتحان، الذي تعرف فيه معادن الرجال.. فجمع أبو طالب- عميد بنى هاشم- أهله، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب.
واستمر هذا الحصار، نحو ثلاث سنين، بلغ بهم الجهد فيها غايته، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب! وطبيعى أن النبي الكريم، كان خلال هذه المحنة يحمل في نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب، وآل هاشم، من جهد ومشقة.. فكل ما كان يقع من آلام في محيط أفرادهم، فردا فردا، وفى جماعاتهم، أسرة أسرة، كان يقع على مشاعر النبي، ويهيج خواطر الألم والإزعاج في نفسه. قبل أن يصل إليهم.. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج! ذلك أنه- وهو النبي- يألم لآلام الناس جميعا، ويود لو حملها عنهم، أو رمى بها في مكان سحيق.. فكيف بما يقع في نفسه من هذا، للآلام التي يراها في أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد، خلال تلك المحنة، إنما كان بسببه هو، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله، لم يكن بسبب العقيدة والدّين، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين، لهان الأمر، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين! إن الآلام النفسية والروحية، بل والجسدية، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله.. كانت من أقسى ما لقى النبي في طريق دعوته من آلام.. إنه حمل آلام أهله كلها، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها.. فمن أجل النبىّ احتملوا هذه التجربة القاسية، وفى سبيل حمايته، والدفاع عنه، واجهوا هذه القطيعة المرة، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين!
رحلة في العالم الأرضى:
وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه في نفس النبي، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا.. أراد- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يلتمس له متنفسا خارج مكة، لعله يجد أعوانا على الحق، وأنصارا للخير، يستمعون له، ويستجيبون لدعوته.
كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة، بعد أن لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين.
ومما ضاعف من وقع الآلام في نفس الرسول، أن سقط في ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا.. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار، ويفسد تدبير قريش، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم، بعد أن سلّط اللّه عليها الأرضة فأكلتها جميعا، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم اللّه عز وجل- ما كادت تنتهى هذه المحنة.
حتى مات عمه أبو طالب، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر.. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة، بعد موته بثلاثة أيام!! فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء في عمه وفى زوجه، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟
إنه كان في أحرج مواقف الدعوة، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه، بين قريش، وبين النبي.
إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه، يغادبهم، ويراوحهم بآيات اللّه وكلماته، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء، ولا يلقى منهم إلا ما يكره- نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها- حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما، وتطورات خطيرة في حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة، وسيسمع أحاديث متباينة، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات اللّه، وسيهجر النبي موطنه، ويهاجر إلى موطن آخر، وأقوام آخرين غير قومه.. وستدور معارك، وتسيل دماء، ويبتلى النبي في نفر كريم عزيز من أصحابه، يسقطون في هذه المعارك، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم، بعد أن يجيئه نصر اللّه، ويفتح مكة، ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا! إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول، هو- كما قلنا- إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس، في شقّ الأرض، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ.. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات، لما يلقى فيها من حبّ! نقول إنه في هذا الجو الثقيل الخانق، الذي كان يضيق به صدر الرسول في مكة- خرج إلى الطائف، يعرض نفسه، ويقدّم دعوته إلى ثقيف يلتمس منهم الاستجابة له، والنصرة لدعوته، والمنعة بهم من قومه.. وكان معه في رحلته تلك، مولاه زيد بن حارثة! ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم، فدعاهم إلى اللّه، فلم ير منهم إلا إعراضا، وسفها، وتكذيبا، واستهزاء.
وكان فيما قال له صاحب كلمتهم: واللّه لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا- كما تقول- لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على اللّه. ما ينبغى لى أن أكلمك!! إنها سفسطة أحمق، وضلالة ظلوم جهول! فقام رسول اللّه من عندهم، وقد يئس من خيرهم، إن كان فيهم خير، وقال لهم صلوات اللّه وسلامه عليه: «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى..».
إذ كره رسول اللّه، أن يبلغ ذلك قومه عنه، فيغربهم ذلك به، ويدفعهم إلى الانتقام منه، ومضاعفة الكيد له.. ولكن القوم لم يفعلوا، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى أصابه شجاج في رأسه! وترك الرسول الكريم- بأبى هو وأمي- الطائف على تلك الحال، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة، وفاض صدره، ضيقا وحزنا! ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال، لا يزال يمسك منها على شيء من الأمل والرجاء، ولا يزال يطمع في خير من أهل أو صديق فيها! وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك، حتى تجتمع نفسه، وتسكن خلجاته ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام! وفى ظل هذه الشجرة، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه، يناجيه، ويطلب العون والمدد من رحمته، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء في مالك الملك، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض.. فيقول صلوات اللّه وسلامه عليه: «اللهمّ.. أشكو إليك ضعف قوّتى، وقلّة حيلتى، وهو انى على الناس!يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربى إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟ إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لى أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحلّ علىّ غضبك، أو أن ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضىولا حول ولا قوّة إلا بك».
بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق باللّه، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة، اتجه الرسول إلى ربّه.. متضرعا، متوجعا، طالبا رضا ربّه ورحمته، في صبر وحمد، على السّرّاء والضرّاء! مدد غير منتظر:
وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة، نزل منزلا بمكان يسمّى نخلة وقضى فيه ليلته، ثم قام في جوف الليل يصلّى، ويتهجّد بكلمات ربّه، فصرف إليه نفر من الجنّ، فاستمعوا له، وباتوا الليل معه، دون أن يشعر بهم!.
وفى الصّباح، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه، تلقّى خبر السّماء في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..} (الآيات: 29- 32) من سورة الأحقاف.
فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن، فشاع في كيانه الرّضا والاطمئنان.. إنه ليس وحده، وإن صوت السماء متصل به، وإن جندا من جنود اللّه- لا يراهم- يحفّون به، ويستمعون إليه، ويؤمنون به، وبالكتاب الذي أنزل عليه.
ومن هذا الذي يستمع إلى كلام اللّه، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من الجنّ.
الجنّ الذي يضرب به المثل في الخروج على كل نظام، والتأبّى على كل نداء!.
فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر في نفوس الناس، وفى أضلّهم ضلالا، وأعتاهم عتوّا؟
ولا شك أن في هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول اللّه، والتطييب لخاطره، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به في الطائف.. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول، ويجد منه القوة على مواصلة السّير في طريقه إلى قومه، وفى مواجهة تحدّيهم له، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.
وعلى هذا العزم، ومع تلك القوة، مضى الرسول إلى مكة!.
ولا يجد الرسول قومه، على غير ما عرف منهم.. إنهم على هذا الضلال المبين، وعلى تلك العداوة له، والخلاف عليه.. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه، ما يشدّ عزمه، ويدفع به إلى مواجهة قومه في مكة- فإنه ما زال في حاجة إلى أمداد أخرى، تثبّت قدمه، وتشدّ عزمه، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد في سماء مكة، بينه وبين قومه.
لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه، في الأرض، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها، فكان لا بد من عالم آخر، يتزود منه بزاد روحى، يشيع في كيانه قوى مجدّدة، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها في هذا النضال المتصل بينه وبين قومه، حتى يحكم اللّه بينه وبينهم بالحق، وهو خير الحاكمين.
فكانت رحلة الإسراء!
رحلة في العالم العلوي:
وفى الإسراء إلى العالم العلوي.. يجد الرسول من آيات ربّه، ومن دلائل قدرته، وعجائب ملكوته، ما تذوب في عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه.
فلم يكن الإسراء في صميمه، إلا رحلة روحية لرسول اللّه، في عالم النور، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف.. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق، في سبيل اللّه، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها، واحتمل ما احتمل من أجلها.
وماذا يكون للرسول من جزاء في هذه الدنيا، على مالقى في سبيل الدعوة من عنت وإرهاق، وما أصابه من ضرّ وأذى في نفسه، وأهله، وصحبه؟ إن كلّ ما في الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء.. وإن الرسول الزاهد في كل ما في هذه الأرض، وما عليها من مال ومتاع.. فلم يكن إلا ما في السماء، هو الذي يناسب حال الرسول، ويليق به! وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى، أول سورة الإسراء.
والذي ذكره من أمر الإسراء، أنه وقع ليلا، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام، فهو في مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام.
يقول ابن إسحق في سيرته: وكان مسراه- صلّى اللّه عليه وسلّم- وما ذكر منه، بلاء وتمحيصا، وأمرا من أمر اللّه، في قدرته وسلطانه.. فيه عبرة لأولى الألباب، وهدى ورحمة، وثبات لمن آمن به وصدّق، وكان من أمر اللّه على يقين.. فأسرى به كيف شاء، ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.
وقد طلع النبىّ على قريش بهذا الخبر، وأنه أسرى به في ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس، فبهتوه، وكذّبوه، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه.. وقال قائلهم: هذا واللّه الإمر، واللّه إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة، وشهرا مقبلة.. أفيذهب محمد في ليلة واحدة ويعود إلى مكة؟
ولم يقف الأمر عند كفّار قريش، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان، ممن أسلموا، فارتدّوا عن الإسلام، وارتابوا.
وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر- رضى اللّه عنه- لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان، فقالوا له: هل لك يا أبا بكر في صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس، وصلّى فيه، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا: ها هو ذا في المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر:لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟ فو اللّه إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فأصدقه.. فهذا أبعد مما تعجبون منه.
ونحن نشكّ في هذه الرواية.. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شيء من أمر النبىّ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه، وما كان الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول اللّه، لا يفارقه أبدا!
ونعود إلى الإسراء فنقول- كما قلنا من قبل- إنه كان شأنا خاصّا بالنبيّ، ورحلة روحيّة في الملأ الأعلى، أرادها اللّه سبحانه وتعالى له، ليشرح بها صدره، وينعش بها روحه، ويذهب بها ما ألمّ به من ضيق وحزن، بموت عمّه، وزوجه، وبتألّب قريش عليه، وعلى آله، وبما لقى من أهل الطائف من لقاء بارد ثقيل، وردّ سمج قبيح.
وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء.. فهو بهذا المعنى، ليس معجزة للتحدّى، تقف من الناس موقف التعجيز لهم، والتحدّى بالإتيان بمثلها، وإنما هى إخبار بأمر شهده الرسول وحده.. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه، أو يشك في شيء مما يقول.
إنه أمين السّماء.. لا يكذب أبدا.. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل في هذا الدين، ويؤمن باللّه ورسوله.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [7: الحشر].
إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين.. فمن آمن باللّه، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا، حتى يؤمن برسوله، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله، ويسلّم به، قبل أن ينظر فيه، أو يعرضه على عقله.. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا في قول الرسول، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به.
فهذه آيات اللّه التي كانت تنزل على الرسول الكريم، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام اللّه، إلّا إيمان المؤمنين به، بأنه رسول من عند اللّه، وإن كان في آيات اللّه ذاتها ما يحدث عن إعجازها، وأنها ليست من قول بشر.. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر في وجه آيات القرآن، واستعراض ما فيها من قوى الحق، وشواهد الإعجاز!
هذا ما ينبغى أن نقف عنده من حديث الإسراء، فإذا كان لنا أن نمدّ النظر إلى ماوراء هذا، فهو ما جاء من ذكر المسجد الأقصى، وجعله معلما من معالم الإسلام، يناظر المسجد الحرام.. وفى هذا، ما يصل مشاعر المسلمين بهذين المسجدين، ويجعلهما معا آيتين من آيات اللّه في الأرض، يستظلّ المسلمون بظلهما، ويقومون على عمارتهما وتأمين السّبل إليهما.. وهذا لا يكون إلا إذا كان هذان المسجدان داخل دار الإسلام، وتحت يد المسلمين، الأمر الذي يكشف عن وجه من وجوه إعجاز القرآن، في إخباره بالغيب، الذي لم يكن يقع لنظر أحد من المسلمين يومذاك، أو يدور في خواطرهم.
وقد مكّن اللّه للمسلمين من المسجد الأقصى، ودخل هو وما حوله في دار الإسلام، منذ خلافة عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه إلى اليوم، وإلى ما بعد اليوم، وإلى يوم الدين.. وإنه على رغم ما بذل أعداء الإسلام من جهود في إخراج هذا البيت من يد المسلمين- فإنه لا يلبث أن يعود إليهم، كما يعود إليهم، كما يعود المسافر إلى أهله، بعد رحلة، قد تطول وقد تقصر! ونحن نكتب هذا، في سنة ألف وثلاثمائة وتسع وثمانين من الهجرة (1969 من الميلاد) وبيت المقدس في يد اليهود، منذ عامين تقريبا، اليهود الذين عملوا لذلك من قبل ظهور الإسلام يوم كانوا خاضعين لحكم الرومان، ثم عملوا له بعد الإسلام، فأشعلوا الفتن، وأقاموا الحروب، وأغروا النصارى بالمسلمين، حتى وقع الشر بينهم في تلك الحروب التي اتصلت نحو قرنين، والتي عرفت بالحروب الصليبية.
كل هذا ليجد اليهود فرصتهم إلى هذا البيت الحرام، وهاهم أولاء قد وجدوها اليوم، مستعينين بأموالهم، وسلطانهم على أمريكا، التي ساندتهم، ووقفت وراءهم، وأمدتهم بالعتاد والرجال والأموال.
ولا ندرى السبيل الذي نستردّ به هذا البيت.. أهو بالحرب أم بالسلم، ولكن الذي ندريه ونستيقنه، هو أن هذا البيت لا بد أن يعود للمسلمين، وأن يدخل في دولة الإسلام، وأن غربته في يد اليهود ستنتهى حتما، ويعود الغريب إلى أهله.. إن شاء اللّه.
هذا عن الإسراء.
أما المعراج، فإن حديثه يطول.. ولكنّا سنكتفى بلمحات نشير بها إليه، لنكشف عن تلك المقولات التي قيلت فيه.. بلا حساب، ولا تقدير، حتى اشتبه فيه الحق بالباطل، وغلب فيه الخيال على الواقع.
قصّة المعراج:
والمراد بالمعراج، هو عروج النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- أي صعوده إلى السماء، من بيت المقدس بعد أن أسرى به إليه.
والآيات التي يستند إليها الذين يصورون حديث المعراج هى ما جاء في أول سورة النجم في قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}.
وهذه الآيات محتملة لكثير من التأويلات، بحيث لا يرى فيها المعراج إلّا بعد جهد، وطول نظر، ومن خلال ثقب ضيق جدّا.. وذلك ليكون المعراج في حدود هذا الإطار، الذي يومأ فيه إليه إيماء، ولا يتحدّث عما احتواه من أسرار وعجائب، لم يطلع عليها إلا الرسول وحده، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..!
وقد رويت عن الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، في بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت اللّه، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورا ويقينا! وليس في هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، في هذه القصة، دور كبير في دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال في هذا العالم العلوى، وفى المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به.
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى في حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى- عليهما الصلاة والسلام- وأن موسى سأل النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- عما افترض اللّه على أمّته من الصلاة، فلما قال النبىّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها اللّه سبحانة وتعالى على المسلمين في اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
ثم تقول الرواية: إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف فاستجاب له ربّه فجعلها أربعين، فلما عاد النبىّ إلى موسى وأخبره بما خفف اللّه سبحانه وتعالى من الخمسين إلى الأربعين- قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك.. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبىّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى فيطلب منه أن يسأل زيادة في التخفيف.. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة.. ثم خمسة.
وعندها قال النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- لموسى: «لقد استحيت من ربى».
.!! وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسا في العمل وخمسين في الأجر!!.
هذه الرواية تشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة.. هذا، إذا جعلنا في اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه، إذ كانوا ينكرون نبوّة النبىّ أصلا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث، هذا الأثر الذي أشرنا إليه! وثانيا: ما وجه الحكمة في أن يكون من تدبير اللّه سبحانه وتعالى أن تجىء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات!! والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة في أن يغدو النبىّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟
ألا غدوة وروحة واحدة تكفى إن كان لا بد من هذا؟.
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة في هذا، فيجعل من تمام الرواية: «أنها خمس في العمل وخمسون في الأجر»!!
وهذا الذي جعله واضع الرواية وجها داعيا إلى قبولها، هو في الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها.. إذ ليست الصلاة وحدها هى التي تختص بهذه المزية في اعتبار الصلاة بعشر صلوات، بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند اللّه سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}.
هذا، وقد فصّل القاضي عياض في كتابه الشفا، مذاهب القول في الإسراء والمعراج.. وهل كان مع الإسراء معراج؟ وهل كان الإسراء بالروح وحده؟ أو بالروح والجسد معا؟
يقول القاضي عياض:
اختلف السلف والعلماء: هل كان إسراؤه- عليه الصلاة والسلام- بروحه أو جسده.. على ثلاث مقالات:
1- فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام، مع اتفاقهم على أن رؤيا الأنبياء حق، ووحي.. وإلى هذا ذهب معاوية، وحكى عن الحسن البصري- والمشهور عنه خلافه- وإليه أشار محمد بن إسحاق.. وحجتهم قوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وما حكوه عن عائشة رضى اللّه عنها من قولها: ما فقد جسد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
2- وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد، وفى اليقظة.
وهذا هو الحق. وهو قول ابن عباس، وجابر، وأنس، وحذيفة، وعمر، وأبى هريرة، ومالك بن صعصعة، وأبى حية البدري، وابن مسعود، والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة، وابن المسيب، وابن شهاب، وابن زيد، والحسن، وإبراهيم، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريج.. وهو قول الطبري، وابن حنبل، وجماعة عظيمة من المسلمين.. وهو قول أكثر المتأخرين من الفقهاء والمحدّثين، والمتكلمين، والمفسرين.
3- وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة، إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء، الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة، والتمدح بتشريف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم به، وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه.. قال هؤلاء:ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد عن المسجد الأقصى، لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
وبعد أن انتهى القاضي عياض من عرض هذه الآراء، عرض رأيه هو، فرجح جانب القول بأن الإسراء كان بالروح والجسد معا.. فقال:
والحق من هذا، والصحيح إن شاء اللّه، أنه إسراء بالروح والجسد في القصة كلها- أي الإسراء والمعراج- وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار.
ثم يقول:وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال:بروح عبده ولم يقل {بعبده} وقوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى}.
ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولا استبعده الكفار، ولا كذبوه فيه، ولا ارتدّ به ضعفاء من أسلم، وافتتنوا به.. إذ مثل هذه المنامات لا ينكر.. بل لم يكن ذلك الإنكار منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه، وحال يقظته.
وممن قال بأن الإسراء كان بالجسد والروح معا.. البيضاوي في تفسيره، وقد أراد أن يخرج هذا الرأى على أسلوب البحث العلمي، وأنه من الممكنات التي لا ينكرها العلم.. يقول البيضاوي: والأكثر- أي من آراء العلماء-
أنه أسرى بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجّب قريش واستحالوه..
ثم يقول: والاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفى قرص الشمس ضعف ما بين طرفى كرة الأرض مائة ونيفا وستين مرة، ثم إن طرفها- الشمس- الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية!! وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض، وأن اللّه سبحانه قادر على كل الممكنات، فيقدر أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، أو فيما يحمله، والتعجب من لوازم المعجزات..
والذي نقف عنده من كلام البيضاوي هنا قوله: وقد برهن في الكلام أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض.
وهذا يعنى أن الأجسام جميعها ترجع إلى أصل واحد، وأن هذا الأصل قابل لجميع الأعراض التي تقبلها الأجسام، بمعنى أن المادة التي شكل منها كائن ما، قابلة لأن يشكل منها كائن آخر مخالف له، مع اختلاف في نسب الأجزاء التي يتكون منها الكائن وفى أوضاع هذه الأجزاء، بل إن ذلك نفسه واقع في أجزاء الكائن الواحد.
فالعين مثلا هى من نفس المادة التي تخلّق منها الأنف، أو الكبد أو القلب، أو الشعر.. فكلها جميعا ترجع إلى ما عرف اليوم باسم الذرّة أو ما كان يعرف قديما بالجوهر الفرد.. فمن كتل الذرات تتكون الأجسام، ومن الاختلاف في بناء الذرات، وترتيب أوضاعها، تظهر الأجسام في صورها وأشكالها.
وهذا ما فهمه البيضاوي وقرّره في قوله: إن الأجسام متساوية في قبول الأعراض يعنى أنه من الممكن أن يتحلل جسم الإنسان- مثلا- إلى ذرات فيصبح كائنا لطيفا غير مرئى، ثم يعاد تركيبه إلى وضعه الأصلى، فيكون جسدا كثيفا كما كان.. كل ذلك في لحظة خاطفة كلمح البصر أو هو أقرب، دون أن يخرج الجسد عن سلطان الروح في حالى تحليله أو تركيبه..! وذلك هو الإعجاز أو المعجزة التي تظهر من انتقال النبي الكريم بجسده الشريف إلى المسجد الأقصى، أو العروج به إلى السماء في طرفة عين! ونعود بعد هذا، فنقول: إن الخلاف في أن الإسراء والمعراج، كان بالجسد، وبالروح، خلاف لا يؤثر في حقيقة الإسراء، وما نال الرسول الكريم فيه من ألطاف ربه، وما رأى من آياته.. وإن قدرة اللّه سبحانه وتعالى لا تتقيد بتلك القيود التي تحكمها الضرورات البشرية، وخير من هذا الخلاف الذي يذهب بجلال الإسراء، ويعبث بالستر الخفىّ الملقى عليه من عالم الروح- خير من هذا أن ننظر إلى الرسول الكريم في موكب جلاله وعظمته، تحفّ به ألطاف ربه، وتحدوه رعايته، إلى حيث يسبح في عالم الحق، ويطعم بروحه من طيبات الملأ الأعلى.
أما أن نجسّد العالم العلوىّ، ونحيله إلى أشياء من عالم التراب الذي نعيش فيه، فذلك مما يهوّن من خطر الإسراء والمعراج، ويزرى بقدرهما، ويبخس من قيمتهما.
إن الذي يطالع قصة الإسراء والمعراج، على تلك الصورة أو الصور المجسدة التي تعرضها كتب السيرة، والتفسير، ليموت في نفسه كثير من تلك المشاعر الروحية، التي كان خليقا أن يثيرها فيه حديث الإسراء والمعراج، لو أزيح من طريقه هذا الركام الكثير من العوائق والسدود.. ولا تنخدع لتلك الأصباغ الساذجة التي يلطخ بها القصاص وجه الحقائق المادية، ليحعلوا لها بتلك الأصباغ وجها تدخل به إلى العالم العلوىّ.. فإن هذا المكياج.
المصطنع يجعل منها مسخا أكثر منها حقيقة.
فالبراق مثلا.. الذي يأخذ في حديث الإسراء لونا بارزا صارخا- والذي يهيأ للرسول ليتخذ منه مطية إلى العالم العلوي- هذا البراق ليس إلا أتانا ركب عليه جناحان من ريش، فصار أشبه بلعبة من لعب الأطفال التي يؤلفونها من حطام بعض لعبهم التي انتهى دورها معهم..!
ثم هذا الحجر الذي يشدّ إليه الأنبياء دوابهم عند المسجد الأقصى، وتلك الحلقات المغروسة في هذا الحجر لتمسك المقاود واللّجم- إنها جميعها لتمسك بالمعاني الكريمة العالية التي كان يجدها المرء في نفسه لو أزاح هذا الحجر من طريقها، وانزاحت معه اللّجم والمقاود والسروج وغيرها، مما يكون في مرابط الحيوان! وعلى أىّ فإن الإسراء، على أية صورة وقع، لم يكن فيه ما يخرج النبىّ الكريم عن بشريّته، ويباعد ما بينه وبين الإنسان الذي هو محمد.
فقد عاد الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعد الإسراء، ولقى قومه مؤمنين، وكافرين، فلم ينكر أحد من أمره شيئا مما كان يعهد فيه.. حتى إن أعداءه أنفسهم لم يجدوا عليه أمارة من أمارات هذه الرحلة المباركة.
فإن خيرها كلّه كان مخبوءا في كيانه، منطويا في صدره، ساريا في روحه.
إنه شأن من شأن اللّه مع نبيّه، وزاد روحىّ زوّده به ربّه، تكريما له، وترويحا عن كيانه المجهد المكدود.
وحديث المسلمين عن الإسراء، ينبغى أن يكون حمدا للّه، وتنزيها له، وثناء عليه، أن أنزل نبيّهم هذا المنزل الكريم، ورفعه إلى هذا المقام العظيم، وأفاض عليه ما أفاض من ألطافه ومننه.. وهذا ما يدعونا إليه اللّه سبحانه وتعالى في قوله جل شأنه:
{سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فسبّحوا اللّه واحمدوا له، أن أسرى بعبده محمدا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأن أراه من آياته وأسبغ عليه من آلائه، ما هو أهل له عند ربّه {ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.


{وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)}.
التفسير:
مناسبة هاتين الآيتين لما قبلهما، هى أنه لما كانت الآية السابقة التي افتتحت بها السورة، قد ذكرت تلك النعمة العظمى التي أنعم اللّه سبحانه وتعالى بها على النبىّ، إذ أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، في تلك الرحلة العجيبة، التي رأى فيها ما رأى من آيات ربّه- فناسب ذلك أن يجىء ذكر النعم التي أنعم اللّه بها على عباده.. ولما كان أجلّ تلك النعم وأعظمها إرسال الرسل إلى الناس، يحملون إليهم هدى اللّه، ويدعونهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولما كانت التوراة التي نزلت على موسى، هى الشريعة القائمة عند أهل الكتاب المعاصرين للنبوّة- من يهود ونصارى-
فقد كان ذكر موسى.. والكتاب الذي أنزل عليه، أقرب وأولى ما يذكر في هذا المقام.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}.
فهذه الآية معطوفة على ما قبلها. والتقدير: سبّحوا- أيها الناس- ربّكم الذي أسرى بعبده محمد ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والذي آبى موسى الكتاب وجعله هدى لبنى إسرائيل، فوجب عليهم أن يشكروا اللّه، وأن يأخذوا حظهم من هذا الهدى الذي جاءهم به رسول اللّه، وألا يتخذوا من دون اللّه وكيلا يتعاملون معه، ويسندون إليه أمورهم، ويجعلون عليه معتمدهم!.
الحقيقة المحمّدية.. وما يقال فيها:
ونلمح في هذا العطف سرّا لطيفا، تشّع منه دلالات تشير إلى مقام النبي الكريم، ومنزلته عند ربّه، وأنه صلّى اللّه عليه وسلّم، هو هدى في ذاته وشخصه، يقابل الهدى الذي حملته التوراة إلى بنى إسرائيل! فالرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بما رأى من آيات ربّه الكبرى في إسرائه ومعراجه، وما حمل في كيانه من معالم الحق في هذه الليلة المباركة- قد أصبح هو في ذاته كتابا من كتب اللّه، ورسالة من رسالاته، يجد فيها أولوا البصائر للشرقة، وأصحاب القلوب السليمة، ما يجد المؤمنون باللّه، في آياته وكلماته من هدى ونور.. وهذا ما يحدّث به الحديث الشريف: «أنا رحمة مهداة».
فالنبىّ الكريم في ذاته، هو رحمة، بما نطق به من كلماته، وبما استملى الناس من سيرته، وبما اقتبسوا من أدبه وعلمه وحكمته.
وإنّا لنجد مصداق هذا، في هذا المجتمع الإسلامى الأول الذي أقامه الرسول الكريم، واستنبته من جدب الصحراء وقفرها، وأطلعه من غياهب ظلامها، وضلالها.. وذلك بما حمل إلى الناس من كلمات اللّه، وبما أراهم من آثار كلمات اللّه فيه، وتربيته له سبحانه وتعالى على منهجها، فكان إنسانا يقرأ الناس في سيرته- قولا وعملا- منطوق كلمات اللّه ومفهومها، كما تحدّث السيدة عائشة رضى اللّه عنها، فتصف خلقه عليه الصلاة والسلام بقولها: «كان خلقه القرآن».
فما أعظمه من إنسان! وما أكرمه من رسول! وما أعلى مقامه في العالمين! وأحبّ هنا أن أقف وقفة قصيرة مع تلك المقولة التي تقال وتذاع بين المسلمين، فيما يعرف عند أصحابها بالحقيقة المحمدية.
فالذين يستمعون من المسلمين إلى هذا العنوان: الحقيقة المحمدية وما يجىء وراء هذا العنوان من حديث عن هذه الحقيقة، قد يجدون في صدورهم حرجا من أن يدفعوا عن هذه الحقيقة تلك الدعاوى التي يدّعيها عليها القائلون بها، والتي يصوّرون فيها النبىّ الكريم هذا التصوير العجيب، الذي يقطعه عن العالم البشرى، بما يضيفون إليه من صفات وأعمال، لا تقتضيها طبيعة البشر، ولا تثقل بها موازينه في المصطفين من عباد اللّه.!
إنها مقولات كثيرة مغرقة في الخيال، تضفى على ذات النبىّ أثوابا فضفاضة- بل مهلهلة- من نسيج الوهم، ومن واردات الخرافة، يحسب بها أصحابها- عن إيمان، أو عن كيد- أنّهم إنما يمجّدون النبىّ، ويفردونه وحده بتلك المنزلة التي تتقطع دونها الأوهام والظنون! ومن هنا، كان خطر هذه المقولات وأثرها داهما مزلزلا، في المجتمع الإسلامى، إذ هى مقولات- كما قلنا- يجد كثير من المسلمين حرجا في دفعها، والوقوف لها.. لأنها كلّها- كما تبدو في ظاهرها- تمجيد في مقام النبىّ، وإعلاء لقدره، وإنه لأحبّ شيء عند المؤمن أن يمجّد مقام النبىّ، وأن يعلى قدره! وإنه لا حرج في هذا المقام من المبالغة والغلوّ.. فذلك خير، والمبالغة في الخير خير!! هكذا يلقى كثير من المسلمين تلك المقولات التي تقال في الحقيقة المحمدية.
حيث يستقبلها المسلم بمشاعره، فيجد فيها ريحا طيبة، تحدّث عن مقام النبوة، وكمالها، فتتخدّر لذلك مشاعره، وتغيب مدركاته، وإذا هو مهيأ لقبول كل ما يقال في هذا المقام.. فإذا صحا بعد هذا، وجد كلمات كثيرة قد علقت بصدره، ودارت في كيانه، تحدّث عن النبىّ بأنه النّور الذي خلق منه هذا الوجود، وأنه الرّوح العظمى التي سرت في هذه الكائنات.. وأنه لولاه- صلّى اللّه عليه وسلّم- ما خلق اللّه هذا الوجود، ولما كانت أرض ولا سماء، ولا شمس ولا قمر، ولا كواكب ولا نجوم، ولا ملائكة ولا لوح ولا قلم! إلى غير ذلك من المقولات التي تقال في الحقيقة المحمدية! مما لا مستند له من كتاب، أو سنّة، أو عقل.
فالقرآن الكريم، يقرر في مواضع كثيرة منه أن محمدا بشر من رأسه إلى أخمص قدمه.
فيقول سبحانه وتعالى، آمرا نبيّه الكريم أن يعلن الناس به: {قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ} [110: الكهف] ويقول سبحانه: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [9: الأحقاف].
فهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- في الناس، واحد من النّاس.. وهو-
صلوات اللّه وسلامه عليه- في الرسل، واحد من الرسل، ليس بدعا من بينهم! فماذا يقول القرآن أصرح من هذا القول، في تحديد صفة النبىّ، وأنه بشر لم تتخلّ عنه بشريته، ولم يخرج هو عن بشريته بحال أبدا؟
ثم ماذا يقول النبىّ عن نفسه أكثر وأوضح من هذا القول الذي أمره به ربّه أن يقوله، حتى يدفع عن نفسه ما ليس له، مما يقوله عليه من يقولون من المغالين فيه، هذا الغلوّ، الذي هو وقول المتطاولين على مقامه- سفاهة وجهلا- والمتنقّصين لقدره- افتراء وكذبا على سواء؟
بل وما ذا يقول النبىّ أكثر وأصرح من قوله: «أنا عبد آكل كما يأكل العبد»- حتى يمسك هؤلاء المغالون فيه على طريق قاصد مستقيم في شأنه؟
يتكىء القائلون بالحقيقة المحمدية، وبالصفات التي يوردونها عليها- يتكئون على حديث يروى عن النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم، هو قوله: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين، وكنت نبيّا ولا آدم ولا الطين».
ويتخذون من هذا منطلقا ينطلقون به إلى اصطياد كل واردة وشاردة.. فلقد فتح عليهم هذا القول الذي يفهم منه أن النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان نبيّا قبل أن يخلق آدم- نقول فتح عليهم هذا القول بابا بل أبوابا يلجون منها إلى اصطياد المقولات التي تتخذ من هذا المفهوم منطلقا إلى كل قريب وبعيد، وإلى كل معقول وغير معقول، حتى لقد اجتمع للقوم من هذا، ما تسمع من تلك المقولات التي لا تنتهى، ولا ينتهى حديث أصحابها عنها! ولا نعرض لصحة هذا الحديث، ولا لمكانه من القوة أو الضعف.
بل نأخذه مسلّمين به، قائلين بصحته.. سندا، ومتنا!
فماذا في هذا الحديث؟ بل ماذا وراءه مما يسر أو يعلن من الحقيقة المحمدية؟
ولكن قبل أن نجيب على هذا، نسأل القائلين بالحقيقة المحمدية عن معنى منطوق الحديث: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين.. وكنت نبيا ولا آدم ولا الطين!..».
أين كان محمد صلوات اللّه وسلامه عليه قبل آدم؟
يقولون فيما يقولون: إنه كان درة أو ياقوتة في العرش! ونقول لهم بما يقوله اللّه سبحانه وتعالى في المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ} [19: الزخرف] أفشهد هؤلاء القائلون بتلك المقولة- أشهدوا خلق محمد؟
ثم نسأل، هؤلاء القائلين بالحقيقة المحمدية: أين كان محمد قبل أن يولد لأبويه: عبد اللّه بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب؟ يقولون إنه ما زال منذ آدم يتنقل من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة إلى أن ولد! ونقول: إنّ كل إنسان تنقّل منذ آدم من الأصلاب، إلى الأرحام، حتى انتقل من صلب أبيه إلى رحم أمّه.. فماذا في هذا؟
والحديث الذي يقول: «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين...» إن صحّ- فإنه لا يخرج عن هذا المعنى، الذي فهمناه عليه. إذ تنقّل ويتنقل الناس جميعا في أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات! فالحديث- إن صحّ- يشير بهذا إلى تلك الحقيقة التي يؤمن بها المؤمنون باللّه، وهى أن علم اللّه سبحانه وتعالى، قد وسع كل شىء، وأن هذه الموجودات كلها، في ملكوت السموات والأرض، هى في علم اللّه سبحانه وتعالى، وأنها في كتاب مكنون، كما يقول سبحانه جلّ شأنه: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [75: النمل] وكما يقول تبارك وتعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها.. إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [22: الحديد].
فالذى يفهم من هذا الحديث- إن صحّ- أنه يحدّث عن علم اللّه سبحانه وتعالى، وأن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان في علم اللّه نبيا قبل أن يخلق آدم، ويتحقق له وجود على هذه الأرض.. وليس هذا شأن النبي وحده، بل هو شأن كل مخلوق، إذ كان في علم اللّه على تلك الصفة التي جاء، أو يجىء عليها، قبل أن يخلق آدم، بل وقبل أن يخلق أي مخلوق في السموات والأرض.. إذ قبل الخلق، كان العلم، وفى مستودعات هذا العلم كانت المخلوقات جميعها، قبل أن تخلق وتبرز من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.
وعلى هذا، فلك أن تقول كنت جالسا على هذا الكرسي الذي أجلس عليه، أو نائما في هذا المكان الذي أنام فيه، أو آكلا من هذا الطعام الذي آكل منه. إلى غير ذلك مما أنت فيه من شئونك وأحوالك- لك أن تقول: كنت على هذه الحال، أو على هذا الشأن، وآدم بين الماء والطين، وكنت على تلك الحال وهذه الشأن ولا آدم ولا الطين..!!
وبعد، فإن الحقيقة المحمدية ليست هى تلك الصورة المشوهة المضطربة التي تتراقص في عالم الخيالات والأوهام، والتي تسبح في سموات من الدخان والضباب.. وإنما هى تلك الحقيقة التي عاشت في هذه الدنيا، فكانت نورا هاديا، وسراجا منيرا، يجلّى غياهب الظلمات، ويكشف للناس الطريق إلى اللّه، وإلى الحق، والخير.. ذلك هو محمد رسول اللّه، كما ينبغى أن يراه المسلم، وذلك هو محمد رسول اللّه، كما وصفه ربه جلّ وعلا: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [45- 46: الأحزاب].
ثم لينظر أولئك الذين يتحدثون عن الحقيقة المحمدية هذا الحديث الأسطورىّ.. فهل يجدون للنبىّ في دخان هذا الحديث، وجودا؟ وهل يحققون له ذاتا؟
إنهم قد يقولون: إنا نراه بعيون غير عيونكم، وبقلوب غير قلوبكم، وبمشاعر وأحاسيس غير مشاعركم وأحاسيسكم!! ونقول لهم: إننا لسنا من عالم الملائكة، ولا من عالم الشياطين.. إننا بشر مثلكم نعيش على هذه الأرض.. ننظر بعيون بشرية، ونتعامل بقلوب إنسانية، ونعيش بمشاعر وأحاسيس آدمية! وبهذا الكيان البشرى نرى محمدا، ونتعامل معه، ونوليه قدره من الحب والاحترام والإجلال، ونتخذه إمامنا وقدوتنا، ونصلّى عليه، ونطلب له المزيد من الدرجات العلا عند ربه..!
{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [110: الكهف] إننا لم نلتق بمحمد إلا على أنه إنسان، نعرفه، ونعرف أصوله وفروعه، وقد عاش بيننا أربعين سنة من عمره لم يكن فيه ولا له إلّا ما في الناس، وإلا لما للناس، حتى إذا شرّفه اللّه سبحانه وتعالى بالرسالة، أصبح بهذا التشريف رسولا من رب العالمين، شأن رسل اللّه جميعا.. وهذه الرسالة لم تغير من بشريته شيئا، ولو كان شيء من ذلك لما أنكرت عليه قريش أن يكون بشرا ثم يكون رسولا.. وفى هذا يقول اللّه على لسانهم، هذا القول الذي ينكرون فيه على الرسول رسالته: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا؟} [94: الإسراء] فصلوات اللّه وسلامه عليك يا رسول اللّه، رسولا من أنفسنا، ورحمة وهدى للعالمين.
قوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً}.
الذرية: أي النسل، الذي تناسل من نوح وأبنائه، وهى فعلية، من الذّرء، وهو الخلق.. وأصلها: ذرئية.
أي أن بنى إسرائيل هؤلاء، هم من أبناء وذرارى البقية الباقية من قوم نوح، الذين آمنوا معه، وحملوا في السفينة، ونجوا من الغرق.
وفى وصف بنى إسرائيل بهذه الصفة إلفات لهم إلى أنهم من ذرية قوم مؤمنين، نجّاهم اللّه بإيمانهم من الغرق الذي حلّ بإخوانهم الكافرين.
وإذن، فخروج بنى إسرائيل من الإيمان الذي كان عليه آباؤهم الأولون، وعودتهم إلى الكفر الذي كان عليه إخوان آبائهم هؤلاء- هو تضييع لهذا الميراث الكريم الذي تركه لهم آباؤهم، ثم هو عدوان على اللّه، وتعرّض لنقمته، كما انتقم من عمومتهم، فأغرقهم واجتثّ أصولهم.
وقد نصب {ذرية} على الاختصاص، وقيل نصب بالنداء، أي يا ذرية من حمل اللّه سبحانه، مع نوح.
وفى قوله تعالى: {إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً} تحريض لبنى إسرائيل على أن يلحقوا بنوح، ويتأسّوا به، ويشكروا اللّه أن بعث فيهم رسولا، وأنزل معه كتابا يهديهم ويبين لهم طريق الحق!


{وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7)}.
التفسير:
قضينا: أي أوجبنا، وقدّرنا، وحكمنا.
فهذا هو ما حكم اللّه سبحانه به، على بنى إسرائيل، وقضاه عليهم.
بنو إسرائيل.. ووعد الآخرة:
فقد حكم اللّه سبحانه وتعالى عليهم: أن يفسدوا في الأرض مرتين و هو قضاء لا مردّ له ولهذا جاء الفعل مؤكدا: {لتفسدنّ}.
فكأنه أمر لهم بأن يفسدوا- وذلك لأنهم واقعون تحت هذا القضاء الذي لا يردّ، حتى لكأنهم مأمورون به! وهذا من ابتلاء اللّه لهم، وغضبه عليهم، لما سبق في علمه- جل شأنه- من أنهم لن يستقيموا على هدى، ولن يسكنوا إلى عافية! والفساد الذي ينضح من كيان بنى إسرائيل، هو فساد يجىء عن بطر وكبر، وكفر بنعم اللّه التي يفيضها عليهم، ولهذا جاء قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} معطوفا على هذا الفساد، مؤكدا لتأكيده، حيث أنه كائن منه، ومتولد من كيانه.. فهو علوّ فاسد، نتاج غرس فاسد. فهم إنما يفسدون حين يمكن اللّه لهم في الأرض، ويفيض عليهم الكثير من نعمه، وعندئذ يستبدّ بهم الغرور، ويستولى عليهم الأشر والبطر، شأن أصحاب النفوس النكدة، والقلوب المريضة، إذا مستها رحمة من رحمات اللّه، مكرت بها، وأحالتها في كيانها شرّا وبلاء، تتغدى منه، وتلقى بثمره النكد إلى كل ما حولها.
كالأرض الملح، ينزل عليها الغيث، فتتحول إلى برك ومستنقعات، لا تفوح منها إلا الروائح العفنة، ولا يتحرك على صدرها إلا الهوامّ والحشرات! وفى قوله تعالى: {فى الكتاب} إشارة إلى أن ما قضى اللّه به في بنى إسرائيل، وألزمهم إياه- هو مما في كتاب اللّه، وهو اللوح المحفوظ.. وفى هذا توكيد لهذا القضاء المبرم، المكتوب، وأنه لا مفرّ منه.
هذا، ويرى الزمخشري أن المراد بالكتاب هو التوراة متابعا في هذا من سبقه من المفسرين، وقد تبعه على هذا الرأى من جاء بعده..! وقليل من المفسرين من قال بأن الكتاب هو اللوح المحفوظ باعتبار أن ذلك رأى مرجوح.
والذي نقول به، هو أن المراد بالكتاب، هو الكتاب المسطور، وهو اللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب.. كما يقول سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} وهذا هو الأنسب والأولى في هذا المقام.. وذلك لأمرين:
أولهما: أن اللّه سبحانه وتعالى قد وصف الكتاب الذي جاء به موسى- وهو التوراة- بأنه هدى لبنى إسرائيل.. وليس يتفق مع هذا الوصف أن يحمل إليهم هذا الكتاب دعوة إلى الإفساد والتحبّر في الأرض! أما ما في كتاب اللّه المسطور، فهو قدر مقدور لهم، خفى عليهم أمره.. شأنهم في هذا شأن ما قدّر على الناس من أقدار.. فهم- والحال كذلك- مدعوّون إلى الهدى، بهذا الكتاب الذي جاءهم به موسى، ثم هم- مع هذا- واقعون تحت هذا القضاء الذي حجبه اللّه عنهم!!
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- مطالبون بدعوة الناس إلى اللّه، ومدّ أيديهم إليهم بالهدى الذي معهم والناس مطالبون بأن يقبلوا على هذه الدعوة، وأن يستجيبوا لها. ثم ينجلى الموقف آخر الأمر، عن مؤمنين آمنوا باللّه، وانتفعوا بهذا الهدى، وعن كافرين، كفروا باللّه، ولم يأخذوا بحظهم من هدى اللّه.. وكلا الفريقين- من مؤمنين وكافرين- أخذ الطريق الذي رسمه له القدر، دون أن ينكشف له ما قدّر اللّه عليه، ولا أن يجد في نفسه أنه مقهور تحت سلطان هذا القدر، وإنما هو مطلق العنان، يأخذ الطريق الذي قدّره هو، ورآه هو.. وهو عين ما قدره اللّه، وقضى به! وثانيهما: أنه لو حملت التوراة إلى بنى إسرائيل هذا القضاء المقضى به عليهم، في صورة الأمر أو في صورة الخبر.. لكان ذلك مما يسقط التكليف عنهم، إذ يضعهم تحت أمر نافذ لاسلطان لهم عليه، ولا قدرة معهم لدفعه، وتعالت حكمة اللّه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
أما ما أنذر اللّه سبحانه وتعالى، به بنى إسرائيل من سوء، وما رماهم به من لعنة، وما أخذهم به من مسخ، فقد كان ذلك واقعا على جماعات منهم، بحيث يبقى بعد ذلك بقية منهم خارجة عن هذا الحكم.. وتلك البقية هى متعلق أنظار القوم جميعا، بحيث يرى كل واحد منهم أنه في غير الملعونين، والممسوخين، وإن كان- فيما قدّر عليه- في الصميم منهم!- وفى قوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} خبر محقق بأن الإفساد الذي يقع من القوم سيكون {مرّتين} يقعان على امتداد حياة بنى إسرائيل في هذه الأرض.
وقد اختلف في الزّمن الذي يقع فيه هذا الفساد في كلّ مرة من المرتين، وهل وقعت هاتان المرتان أو لم تقعا بعد؟ أم وقعت إحداهما ولم تقع الأخرى؟
والذي عليه أكثر المفسّرين أن هاتين المرتين قد وقعتا بالفعل، وأن إحداهما كانت عند الأسر البابلىّ، على يد بختنصّر، الذي استولى على دولة بنى إسرائيل ودمرها تدميرا، وهدم بيت المقدس، وساق القوم أسرى إلى بابل.
وأما المرة الثانية، فكانت بعد أن قتلوا النبىّ أرميا، وقيل بعد أن قتلوا النبىّ يحيا.
والذي ينظر في قوله تعالى: {لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً} يرى أن الإفساد الذي يقع من بنى إسرائيل مصاحب لصفة دالّة عليه، مرهصة به، وهى أن يكونوا في حال، هم فيها أصحاب قوة متمكنة وسلطان ظاهر، وعلوّ في الأرض.. وأن هذا السلطان الظاهر لهم، وهذه القوة العتيدة بين أيديهم، وهذا العلوّ البادي لهم، إنما هو نعم مستنبتة في أرض فاسدة، وغيث هاطل على مستنقع عفن.. ومن هنا يكون البناء الذي أقاموا منه سلطانا، وحصلوا منه على قوة، وبلغوا به ما بلغوا من علو- هو بناء فاسد، يحمل في كيانه معاول هدمه وتدميره.
فإذا نظرنا إلى بنى إسرائيل من خلال هذه الصفة التي يكونون عليها حين يأخذهم اللّه سبحانه وتعالى بما يأخذ به الظالمين، فيسلط عليهم من يرميهم بالنقم، ويأخذهم بالبأساء والضراء.. نجد أن تاريخ القوم يحدّث عن أنهم قد كانوا على تلك الصفة، بعد سليمان عليه السلام، الذي أقام لهم دولة، وأنشأ فيهم ملكا واسعا عريضا.. وأنهم بعد أن ورثوا هذا الملك العريض، وملكوا هذا السلطان العتيد- بغوا وطغوا، وأقلقوا من حولهم من أمم وشعوب.
فسلط اللّه سبحانه وتعالى بعضهم على بعض أولا، فانقسموا إلى مملكتين، مملكة يهوذا في الجنوب، وتضم بيت المقدس، ومملكة إسرائيل في الشمال، وتضم سامريّا.
ثم سلط اللّه على المملكتين من يضربهما الضربة القاضية، ويقضى عليهما القضاء التام- فقام الأشوريون في عام (853 ق. م) وقضوا على مملكة إسرائيل، وضموها نهائيا إلى أشور، وقضوا على كل وجود للشخصية الإسرائيلية حيث وقع معظمهم تحت القتل، ومن نجا منهم من القتل، وقع في الأسر، وأصبح سلعة تباع في الأسواق.
ولما ورث البابليون دولة الأشوريين في العراق، فعلوا في مملكة يهوذا ما فعله الآشوريون في مملكة إسرائيل.
ففى سنة (586 ق. م) غزا البابليون مملكة يهوذا بقيادة ملكهم بختنصر، واستولوا عليها، ودمّروا الهيكل، وقادوا القوم ورؤساءهم أسرى.
وهكذا أصبحت مملكة سليمان كلها تحت الحكم البابلي، أو الأسر البابلي.
وعلى هذا يمكن أن نقول إن هذا الأسر البابلي هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا}.
فهذا الحدث هو أقرب وأبرز بلاء وقع على بنى إسرائيل، بعد أن أفسدوا في الأرض وعلوا علوّا كبيرا.
وليس يعترض على هذا بأن بختنصّر لم يكن من المؤمنين باللّه، وإذن فلا يصحّ أن ينسب إلى اللّه. في قوله تعالى: {عِباداً لَنا} فإن بختنصر- إذا صحّ أنه لم يكن مؤمنا باللّه- ليس إلا عبدا من عباد للّه، فالناس جميعا- مؤمنهم وكافرهم- هم عبيد اللّه. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً} [93: مريم].
ويقول سبحانه لإبليس- لعنه اللّه-: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ} فقد أضاف اللّه سبحانه الناس جميعا إليه.. هكذا: {عبادى}.
ومن عباده هؤلاء الغاوون.
وليس يعترض على هذا أيضا بقول من يقول: كيف يسلّط للّه الكافرين على المؤمنين، فقد كان بختنصر وقومه وثنيين، على حين كان بنو إسرائيل أهل كتاب.. مؤمنين باللّه؟
والجواب: أن بنى إسرائيل، وإن كانوا أهل كتاب، فإنهم قد مكروا بآيات اللّه، وبغوا في الأرض، وملأوا الدنيا من حولهم ظلما وبغيا.. فهم- وإن كانوا مؤمنين ظاهرا- لم يكونوا أحسن حالا من الوثنيين في أفعالهم السيئة المنكرة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} [129: الأنعام] وكذلك يبتلى اللّه الظالمين بالظالمين، أو بمن هم أشد ظلما منهم، فهى نقم تضرب في وجه نقم، وظلم يسوء وجوه الظالمين! ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}.
وفى هذا إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى بعد أن أخذهم بعقابه، وألقى بهم في هذا الضّياع زمنا، كما فعل بهم حين ضرب عليهم التيه أربعين سنة- عاد اللّه سبحانه بفضله عليهم، وأخرجهم من هذا البلاء، بعد أن جعل من الآباء عبرة للأبناء.
ومعنى ردّ الكرة عليهم أنهم أخذوا مكان القوة، على حين نزل القوم الذين ابتلاهم اللّه بهم إلى حال أشبه بتلك الحال التي كان عليها اليهود من الذلة والهوان، وذلك حين أغار الفرس، على البابليين، واستولوا على أوطانهم، وجعلوهم غنيمة لهم، كما فعل البابليون ببني إسرائيل.. {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ} [140: آل عمران].
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} إشارة إلى القوة التي لبسوها بعد هذا الضياع، وأنهم أصبحوا أصحاب شوكة أكثر من شوكة البابليين الذين ساموهم الخسف.. والنفير: الجماعة التي تنفر للحرب وتخفّ مسرعة إليها.
ثم جاء بعد هذا قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها}.
تحذيرا لبنى إسرائيل، أن يركبوا الطريق الذي ركبه آباؤهم من قبل، وأن يفسدوا في الأرض كما أفسدوا، فيحلّ بهم ما عرفوه من بلاء حل بآبائهم.
ثم إذا أعدنا النظر إلى بنى إسرائيل بعد الأسر البابلي، لم نجد لهم دولة ظاهرة ولا ملكا قائما.. وإنما هم دويلات ممزقة، متقاتلة فيما بينها، تخرج من حكم البابليين لتقع تحت حكم الفرس في سنة (518 ق. م).. ثم تحت حكم الرومان، إلى أن جاء الفتح الإسلامى.. الذي أدخل بيت المقدس في دولته، فأصبح المسجد الأقصى من مساجد الإسلام.. ليس لبنى إسرائيل شأن به منذ ذلك الوقت إلى يوم الناس هذا.
وإذن، فهناك المرّة الثانية، وهى التي أشار إليها قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
والسؤال هنا هو:
هل جاء وعد الآخرة.. أي المرة الثانية؟ وإذا لم يكن قد جاء فمتى يجى ء؟
وما الإرهاصات الدالة عليه؟
والجواب على هذا:
أولا: أن هذا الوعد- وعد الآخرة- كان إلى نزول القرآن الكريم غير واقع، وأنه سيقع في المستقبل، القريب، أو البعيد.. والدليل على هذا ما يحدّث به القرآن الكريم في هذا المقام.
فقد تحدّث القرآن الكريم عن مجىء المرة الأولى هكذا:
{فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا}.
وتحدث عن مجىء المرة الثانية هكذا:
{فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
فالآيتان تحدثان عن المستقبل، الذي يدل عليه الشرط: {إذا}.
وهذا يعنى أن المرتين على سواء، في تعليقهما بالمستقبل، وقت نزول القرآن.. الأمر الذي يجعل القول بأن إحداهما قد وقعت، والأخرى لم تقع.. قولا لا حجة عليه، ولا مبرّر له.
ولكن الذي ينظر في الآيتين، يجد:
أن الشرط الذي يعلّق الفعلين بالمستقبل، هو منظور فيه إلى ما قضاه اللّه سبحانه وتعالى في كتابه، وجعله قدرا مقدورا على بنى إسرائيل، في وقوع هاتين المرتين من الإفساد.. وعلى هذا يكون وقوع الأحداث المسطورة في كتاب اللّه كلها، لم تكن وقعت، حين قضى اللّه بها، وأودعها خزائن علمه.
وعند النظر في الآيتين الكريمتين، نجد أن النظم القرآنى قد خالف بينهما.. فجعل ما وقع منهما عند نزول القرآن معبّرا عنه بلفظ الماضي: {بعثنا} {جاسوا}. على حين جعل المرّة التي لم تقع بلفظ المستقبل: {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ.. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا}.
ولو تساوت المرتان، في الوقوع، أو عدم الوقوع، عند نزول القرآن، لم يكن لاختلاف النظم فيهما سبب ظاهر، وهذا أبعد ما يكون عن بلاغة القرآن وإعجازه، حيث لا تجىء كلمة أو حرف فيه، إلا ومعها ما لا حصر له من أسرار! وثانيا: إذا تقرر أن المرة الثانية، لم تجىء حتى نزول القرآن الكريم.
فهل وقعت بعد هذا، أم أنها لا تزال معلقة بالمستقبل، لم تقع بعد؟
والقرآن الكريم هو دليلنا في الإجابة على هذا السؤال.
ففى قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً} في هذه الآية نجد حديثا عن {المسجد}.
والمسجد كما هو معروف معلم من معالم الإسلام، وسمة من سمات بيوت اللّه التي يتعبّد المسلمون فيها.. إذ كان السجود أبرز عمل من أعمال المسلمين في الصلاة.. ولهذا فقد كان الاسم الذي يعرف به المسجد الأقصى هو: بيت المقدس حتى إذا أسرى اللّه سبحانه وتعالى بالنبي الكريم إليه، أسماء- سبحانه- المسجد الأقصى.. وجعله بهذا الاسم، القبلة الأولى للمسلمين، كما جعله بهذه التسمية، مسجدا لهم يعبدون اللّه فيه.. ثم كان الوصف الذي يعرف به المسلمون في المجتمع الإنسانى هو سمة السجود الذي في وجوههم. كما يقول تعالى: {سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ.. ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ} [29: الفتح].
فذكر بيت المقدس باسم {المسجد} يشير إشارة واضحة إلى أن المرة الثانية، التي يقع فيها من بنى إسرائيل هذا الإفساد، إنما تكون في العهد الإسلامى، وفى الوقت الذي يكون فيه بيت المقدس مسجدا للمسلمين، على خلاف ما كان عليه من قبل، حيث لم تشر الآية الأولى إلى المسجد، من بعيد أو قريب.. بل جاءت الآية هكذا {فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ} أي تنقلوا كما يشاءون بين الديار، وهذا يعنى أن العدو الذي ابتلاهم اللّه به، كان متمكّنا، بحيث يمشى في ديارهم، ويتخلل طرقاتها دون أن يخشى أحدا.
ونسأل مرة أخرى:
هل وقعت المرة الثانية؟ وهل جاء وعد الآخرة قبل يومنا هذا؟
والجواب هنا نأخذه أيضا من القرآن الكريم، ثم من أحداث التاريخ.
وننظر مرة أخرى في الآية: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
فهناك حقائق تقررها الآية الكريمة، وهى:
أن الذين يتسلّطون على بنى إسرائيل في هذه المرة، سيدخلون المسجد الأقصى.. {كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وهذا يعنى أمورا:
أن الذين يدخلون المسجد الأقصى هذه المرة، قد كان لهم دخول إليه من قبل، وأنهم إنما يفعلون في هذه المرة، ما فعلوه في المرة السابقة.
ودخول المسلمين المسجد الأقصى أول مرة، كان في خلافة عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- وقد ظل في أيديهم إلى أن دخله بنو إسرائيل في هذه الأيام، من عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثمانين للهجرة.
نعم.. خرج المسجد الأقصى من يد المسلمين إلى يد الصليبيين.. ثم أعيد إليهم مرة أخرى، على يد صلاح الدين.. ولم يكن لبنى إسرائيل حساب أو تقدير في هذا الأمر.
ودخول المسلمين إلى المسجد الأقصى وانتزاعه من يد الصليبيين، ليس له شأن بالدخول الذي سيدخله المسلمون، بعد أن ينتزعوا هذا المسجد من يد بنى إسرائيل، لأن بنى إسرائيل لم يدخلوا المسجد، ولم يستولوا عليه منذ الفتح الإسلامى، حتى وقع لأيديهم في هذه الأيام.
فهذه إرهاصة من إرهاصات المرة الثانية، أو وعد الآخرة، وهى أن يكون المسجد الأقصى في يد بنى إسرائيل، ثم يجىء إليهم من يخرجهم منه، وينتزعه من أيديهم، وهم أولئك الذين كان {المسجد} مسجدهم الذي {دخلوه أول مرة}! وليس المسجد إلا مسجد المسلمين، وليس الذي يدخله للمرة الثانية وينتزعه من اليهود، إلا المسلمين.
والإرهاصة الثانية، هى الحال التي عليها اليهود أنفسهم، وهى أن يكونوا على الصفة التي وصفهم اللّه بها، حين يفسدون في الأرض، ويعلون علوّا كبيرا، وحين يدخل عليهم أصحاب المسجد كما دخلوه أول مرة، ليسوءوا وجوههم، أي يلبسوهم الخزي والسوء، وقد اختصّت الوجوه بهذا، لأنها الصفحة التي ترتسم عليها أحوال الإنسان كلها، وما يمسّه من خير أو شر، وما يلقاه من نعيم أو بؤس.
والذي ينظر في واقع بنى إسرائيل اليوم يجد:
أولا: أنهم منذ عهد سليمان لم تقم لهم دولة، بعد الدولة التي خربها يختنصّر، حتى قامت لهم دولة في هذه الأيام، هى المعروفة باسم إسرائيل والتي تدعمها وتسندها قوى كثيرة من قوى البغي والعدوان.. التي تكيد للإسلام وتتربّص به.
ثانيا: أن هذه الدولة التي أقامها بنو إسرائيل هذه الأيام دولة ولدت من أحشاء الظلام، تحمل معها كل ما عرفت الإنسانية من أدوات الشر، والبغي، والعدوان.. فقد ملكت بكيدها ومكرها، كثيرا من الوسائل الخبيثة، التي مكنتها من تلك القوة، وأقامت بها هذه الدولة.
فالمال الذي أقيمت به هذه الدولة، هو عصارة تلك الدماء التي امتصها اليهود من الأمم والشعوب، في شتى أقطار الأرض.. بما أشعلوا من حروب وبما أثاروا من فتن، وبما اشتروا من ضمائر وذمم.
وثالثا: هذه الدولة، هى غاية ما يمكن أن يبلغه بنو إسرائيل من علوّ، وغاية ما يمكن أن تطوله أيديهم من إفساد في الأرض.
فهم الآن يضعون أيديهم على فلسطين كلها، وعلى شبه جزيرة سينا من مصر، وعلى مرتفعات جولان من سوريا.
وكل ذلك قد وقع ليد إسرائيل في لحظة خاطفة، من لحظات الزمن، لا تتجاوز ستة أيام، الأمر الذي جعل لبنى إسرائيل اسما ذائعا رهيبا في العالم، جعلت تتغذى منه إسرائيل بمشاعر العظمة والزهو والغرور، حتى تورّمت، وأوشكت أن تنفجر، مما بها من كظة وامتلاء، من الزهو والخيلاء.. ومن هنا كان منهم ذلك البغي والعدوان، والإفساد في الأرض.. بنسف الدور، وقتل الأطفال والنساء، بلا وازع من حياء أو ضمير، وبلا خوف من قوة رادعة في الأرض، أو في السماء! المرة الثانية إذن هى ما فيه إسرائيل الآن.. من فساد في الأرض، وعلوّ واستكبار.. فساد إلى أبعد مداه، وعلوّ واستكبار إلى غاية حدودهما.
أما الذي ينتظر بنى إسرائيل بعد هذا، فهو ما يقع تأويلا ل قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
والذي سيتولّى هذا- بلا شك- هم المسلمون، أصحاب المسجد، الذين دخلوه أول مرة، أيام عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه، والذين سيدخلونه اليوم- إذا شاء اللّه- كما دخلوه أول مرة.
وفى قوله تعالى: {لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ} إشارة إلى هذا الخزي الذي سيلبس بنى إسرائيل، حين تحل بهم الهزيمة، ويقع بهم البلاء، ويهوون هويّا من هذا العلوّ الساحق، الذي تسلقوا إليه متلصصين في الظلام.. ويومها يعرف العالم أنهم هم اليهود، أجبن خلق اللّه، وإن لبسوا جلود النمور والأسود!- وفى قوله تعالى: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} إشارة إلى صحوة جديدة، ستبعث القوة، وتعيد الحياة إلى الأمة الإسلامية، وتجدد شبابها.
وإذا هى أقرب ما تكون إلى عهد الفتح الأول.
وشواهد هذا البعث للأمة الإسلامية كثيرة.. فقد تحررت أوطان العالم الإسلامى جميعها من الاستعمار، وأخذت الحياة تدبّ في أرضها الموات، بما يتدفق منها من ينابيع الذهب الأسود البترول الذي أمدها بأقوى قوة تقوم عليها الأمم في العصر الحديث، وهى المال، الذي يمكّن لها من العلم، وما يقوم على العلم من أسباب المدنية والعمران.
وفى قوله تعالى: {وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
التبار، والتتبير: التدمير، والإهلاك.
وفى هذا إشارة إلى أن المسلمين سيجيئون بقوة قاهرة، ذات بأس متمكن غالب، يأتى على القوم، وعلى كل ما معهم من سلاح وعتاد.
فكلمة {ما} وهى اسم موصول لغير العقلاء، يراد به بنو إسرائيل، وما معهم من معدات الحرب، وأدوات القتال، التي جلبوها من كل مكان، ورصدوها للشر والعدوان.
إن بنى إسرائيل بغير معدات الحرب هذه، لا حساب لهم، ولا وزن.. ولهذا كان ميزان الأسلحة والمعدات أثقل من ميزانهم، ولهذا أيضا جاء التعبير يلفظ {ما} تغليبا لغير العاقل، وهو الأسلحة والمعدات، على العاقل، وهم بنو إسرائيل كان السلاح والعتاد أرجح منهم كفة، وأعظم أثرا.. فإنهم بغير هذا السلاح شيء لا وزن له.
إننا لنقطع عن يقين، أن بنى إسرائيل معنا اليوم، واقعون تحت قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً}.
وإذن فالجولة التالية بيننا وبين بنى إسرائيل، هى لنا، وسندخل المسجد إن شاء اللّه كما دخلناه أول مرة، وسنخزى القوم ونعرّيهم من كل ما لبسوا من أثواب الزهو والغرور.. وسنقضى على هذه الدولة المولودة سفاحا.. فلن تقوم لها قائمة إلى يوم القيامة.
بقي هنا أمران، نود أن نشير إليهما في إيجاز.
أما الأمر الأول: فهو أن هذه الدولة قامت تحت اسم إسرائيل ولم تقم تحت اسم اليهود أو دولة يهوذا.
وهذا ما يجعل لقوله تعالى: {وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ...} متوجها إلى تلك الدولة القائمة تحت اسم إسرائيل الأمر الذي يجعل من العسير أن تدخل تحت حكم هذه الآية، لو أنها اتخذت أي اسم آخر غير هذا الاسم.. وهذا إعجاز من إعجاز القرآن.
وأما الأمر الثاني: فهو ما جاء في قوله تعالى في آخر هذه السورة: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً}.
.. (101- 104: الإسراء) ونقف من هذه الآيات عند قوله تعالى: {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً}.
ففى قوله تعالى: {وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ} إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن سكنى بنى إسرائيل الأرض، لن تكون إلا سكنى ذليلة مهينة، لا يرتفعون فيها عن هذه الأرض، ولا يستعلون بآدميتهم عن الدوابّ التي تدبّ عليها.. فهم أبدا لا صقون بهذه الأرض، يغوصون في طينها، ووحلها إلى أذقانهم، بحثا عما تعطى الأرض.. أما ما وراء هذا من مطالب الروح، فلا حظّ لهم فيه، ولا شغل لهم به..!
وثانيهما: أنهم سيشرّدون في الأرض كلها.. في طولها وعرضها.. إذ كان همّهم من سكنى الأرض، هو البحث عن كل مرعى فيها، فهم يتتبعون مواقع الرعي حيث كانت، وهذا ما تحدث عنه حياة اليهود، حيث هم في كل صقع من أصقاع الأرض.
وفى قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً} إشارة إلى ما جاء في قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً} فبنو إسرائيل الذي جاءوا لوعد الآخرة، واجتمعوا اليوم في فلسطين، وأقاموا الدولة الواقعة تحت حكم اللّه الذي قضى به عليهم يوم يجىء وعد الآخرة- بنو إسرائيل هؤلاء، قد جاءوا من كل أفق من آفاق الأرض مسوقين إلى حتفهم، مدعوّين إلى قدرهم المقدور، في قوله تعالى: {فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً}.
أي جمعناكم من كل جهة.. فاللفيف من الناس: الجماعة التي تجتمع من وجوه شتّى، كما يجتمع الناس في الأسواق، والأسفار.. ثم ينفضّ السوق، ويتفرق السّفر! {وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7